حاطب ليل الجزيرة والجزيرة والحداثة د\البوني

نحن في السودان كنا وما زلنا نقبع في ظل الاعلام المصري القوي شأننا شأن كل العرب العاربة والمستعربة فأي مفكر أو أديب لا يأتي من مصر او لا يقدمه الاعلام المصري لا نقرأ له ولا نتابع انتاجه او ربما لا نسمع به لان رياح المحروسة لم تحمله.. رحم الله رجاء النقاش الذي قدم لنا وللعرب اديبنا الطيب صالح شفاه الله ومتعه بالصحة والعافية.
مناسبة هذه الرمية هي انني وفي معرض الكتاب الاخير في الخرطوم تعثرت على كاتب سعودي يدعى عبد الله محمد الغذامي ومن خلال كتاب له بعنوان «حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية» واشهد الله انني وعلى كثرة ما قرأت عن الحداثة والتحديث لم أجد في العالم العربي كاتباً مدركاً لابعاد الحداثة تنظيرياً وتطبيقياً مثل هذا الغذامي وفي غمرة اندهاشي بهذا الرجل اتصلت بصديقتنا وزميلتنا الكاتبة المثقفة منى ابو زيد والتي عاشت اغترابين في السعودية مرة بصحبة ذويها والآن بصحبة زوجها وسألتها عن الغذامي فقالت لي إنه من الذين اقاموا دنيا الفكر في السعودية ولم يقعدوها. ووعدتني بعدد من كتبه ومقالاته.
في حكاية الحداثة عرف الغذامي الحداثة تعريفاً جامعاً ومانعاً ومختصراً يقول «إنها التجديد والوعي» والاطرف انه قال ان الحداثة ليست أمراً جامداً بل هي امر متجدد وإن التقليديين والحداثيين التقوا في رفض ما بعد الحداثة أما من حيث التطبيق فقد وقف الغذامي عند الحالة السعودية وتساءل لماذا لم تنجح «الطفرة البترولية» التي ربطت الدولة والمجتمع السعودي رباطاً محكماً بالعالم الخارجي خاصة المتقدم منه في تحديث المجتمع السعودي؟ وظل تقليدياً كما هو لا بل استفحلت فيه التقليدية بصورة اكبر مما كانت عليه قبل الطفرة؟
لعمري ان هذا سؤال رهيب يكشف حقيقة أرهب. أجاب بان السبب يرجع للاعتماد على العمالة الخارجية ولم تتجذر قيمة العمل كرافعة تحديث في المجتمع السعودي وفصل هذا في الكتاب تفصيلاً مقنعاً.
قصة الحداثة في الجزيرة العربية أعادتني لخمسة عشر عاماً للوراء يوم ان كتبت ورقة اكاديمية عن فشل الحداثة في مشروع الجزيرة بالسودان قلت ان الانجليز ادخلوا محصولاً نقدياً وهو القطن وربطوا البلاد وبالتالي المزارع بالرأسمالية العالمية وحدثوا الارض بآخر تقنيات القرن العشرين وفرضوا الاقتصاد النقدي بدل الاكتفاء الذي كان سائداً ولكن رغم ذلك لم يتحدث انسان الجزيرة وظل على ما كان عليه قبل المشروع من تقليدية وجهل ومرض وفقر فاكتشفت ان الانجليز انفسهم هم الذين قاوموا الحداثة ومنعوا ظهور طبقة رأسمالية من القطن بادخال الحساب المشترك وأدخلوا تدابير ادارية أبقت على سيطرة المنظومة العشائرية التقليدية وحاربوا قيم الاستهلاك والسوق حتى يظل المزارعون على «عماهم» ولا يطالبوا بنصيبهم الحقيقي في انتاج القطن وللاسف سار كل الحكام الوطنيين على نهج الانجليز في الجزيرة وظل الحال على ما هو عليه قبل المشروع إلى منتصف السبعينيات إذ ظهرت روافع تحديث أخرى وقد اسميت الورقة «صناعة التخلف في الجزيرة» وقد شجعني كتاب الغذامي كي اقوم بنشرها في هذه الصحيفة «ويلا ابكوا كلكم مع اهل الجزيرة دي.. وديك».