حاطب ليل الجزيرة غرق وحرق د\عبد اللطيف البوني

اذا كنت من الذين يعشقون المعاناة في الرحلات باستغراق أطول وقت في أقصر مسافة، أو اذا كنت من الذين يهوون النكد والبكاء على ضياع الموارد، أو اذا كنت من هواة كشف العجز الادارى، فأذهب الى مشروع الجزيرة وتوغل فيه. ونقصد بكلمة توغل ان تفارق شارع الخرطوم مدنى والقرى الواقعة عليه واتجه الى أية قرية من الجزيرة ليس لديها «ردمية» تربطها بالشارع الرئيسى أو ليس هناك «ضهر ترعة كارب» وكن مستعداً لمجازفة تفقدك وقتك وقوتك ونفسياتك وتعطب وسيلة مواصلاتك حتى اذا كانت حماراً مكادىاً أو حتى اذا كنت راجلاً.

القصة وما فيها أيها السادة ان الجزيرة هذه الأىام منطقة مغلقة، فالمياه قد خرجت من القنوات الرئيسية والفرعية و«أمات عشارين» وهذه مفردها ابوعشرين، وأمات ستات وهذه مفردها ابوستة «شفتو الجندرة دي كيف» ومن الجداول والحواشات وغمرت كل الطرقات ونهضت الأعشاب وسط البرك وظهرت منطقة سدود جديدة في وسط السودان. فمثلما قام السد العالي بانشاء دلتا في منطقة حلفا دغيم ولا لبنان فإن مياه ذات النيل انشأت منطقة مستنقعات جديدة وجونقلي جديدة تحتاج الى جون قرنق جديد ليعمل منها رسالة دكتوراة في جامعة الجزيرة وليست جامعة امريكية.

لقد عجزت «الكراكات» عن تطهير القنوات لارتفاع ضفاف القنوات بفعل تراكم الطمي المستخرج، الكبارى تحطمت والمواسير التى تنقل المياه من القنوات الكبيرة الى أمات عشارين اختفت، تخرج المياه من القناة الرئيسية وبعد ذلك على كيفها. القانون الجديد سحب الغفراء ومفردها غفير، واصبحت روابط المياه هي المسؤولة عن المياه وهذه الروابط لا تعرف «كوع» الري من «بوعه» اختفت القناطر والتلفونات التى كانت تتابع المياه نقطة نقطة من سنار الى آخر سراية في المشروع، المفتشون اصبحوا في انتظار يوم ركوبهم التونسية «لا يودوا ولا يجيبوا» اتحاد المزارعين يفاخر بأنه أعطى حرية زراعة المحاصيل للمزارع ولكنها حرية بدون خيارات، حرية بدون الحد الأدنى من المقومات، فشاعت الفوضى، فبعض الحواشات تموت حرقاً وبعضها يموت غرقاً من فوضى المياه.

يا جماعة الخير المياه أضحت في عالم اليوم أغلى مورد، أصبحت الانتاجية تقاس بما ينتجه لتر المياه وليس فدان الأرض، ولكن المياه في الجزيرة تحولت الى نقمة تقتل الزراعة وتقتل الانسان بالأمراض المستوطنة من بلهارسيا وملاريا وتقتل الأمل في الاصلاح، بعض المزارعين لم يستطيعوا حصد الذرة لأن الشوارع مغلقة أمام الحاصدات، القطن على قلته ورداءة سعره وتنكر الشركة الزراعية «مجدوع» في الخلا، فالعربات لا تصل اليه.. أيها الناس الجزيرة تغرق تغرق ولا بواكى لها