مات د0بهاء الدين محمد ادريس(ابراهيم دقش)

مات د. بهاء الدين محمد ادريس.. أحد الحذقة والحفظة والسدنة إبان العهد المايوي (1969 - 1985).. مات في غربته بلندن وحيداً ومريضاً في آخر أيامه، ومعدماً «يتشعلق» من بص لاخر، ويصعب عليه الحصول على ما يسد الرمق، ومع ذلك جاهد ليحفظ ماء وجهه، ويحتفظ بكرامته... وقد يكون بعض من عرف أو صادق - على قلتهم - قد مدوا له يداً بيضاء أو صفراء أو «خاطفة لونين»، لكن بالتأكيد هناك ايطالي - سوداني يدعى (ريكاردو) وقف إلى جانبه، وتحايل عليه حتى أوصله روما - قبل شهور قليلة - ليعرضه على كبار الأطباء هناك دون أن يشعره بمن أو أذى... ولا اعتقد أن الأطباء الطليان، وقبلهم البريطان قد اكتشفوا علة في جسده.. فما أصاب الرجل كان انكساراً في الدواخل، وانفجاراً حاداً لغليان في نفسه ظل يغالبه ويكابده، وطفحاً لمخزون أوجاع وأحزان جاهد ليمنعها من الظهور، ويخمدها كلما أطلت.. ومهما يكن رأي - كثرة أو قلة - في بهاء الدين محمد ادريس بأنه أيام سطوته وعزه قد أثرى، بدليل من أسموه مستر عشرة بالمائة، أو تخابث أو تآمر أو تخابر أو تعابث حتى، فإن الواحد يحترم فيه امساكه للسانه وامتناعه عن التصريح أو التلميح أو الكتابة أو التأليف عن كل ما يعرف ومن يعرف، وهو كثير كثير ومثير مثير دون أدنى شك.. وحينما اتصلت به صحيفة سودانية لتستنطق تمانع الرجل وامتنع، وفضل أن يفضي بما عنده وبما يعلم عندما يسئل أمام قادر مقتدر.. ولا تفسير لذلك سوى أن بهاء الدين محمد ادريس قد أدرك «تفاهة» الدنيا بعد أن خبرها وعرف أهلها حين أدبرت عنه، فشطبها من اجندته، وكان بامكانه أن يثرى من كتابة مذكراته أو كشف ما في صدره من أسرار! ولا ادعى معرفة - لصيقة ببهاء الدين محمد ادريس وربما أكون قد قابلته مرات بعدد أصابع اليد الواحدة، وحادثته لمرتين فقط، واشهد انه كان ناعماً ومهذباً في ظاهره، أنيقاً جداً في مظهره، متوازناً يقيس عباراته بالميلمتر ويزن كلماته بالمسطرة.. ومعرفتي العامة به انه كان أبعد أهل مايو عن الأضواء، لا يسعى إليها، وحين تأتيه يردها بلطف.. وأخالف من اشاعوا أنه أراد أن يظل (لغزاً) مستعصياً أو انه يجيد استخدام (الابر الناعمة) في صد السهام التي توجه إلى صدره.. فكلما في الأمر انه اختار موقفه وحدد تعامله، ونصب بوصلته في محاذاة منظاره، ليصل بها إلى اهدافه وليحدد من خلالها ايضاً من يريدون استهدافه أو من يريد استهدافهم.. وهذه استراتيجية لا غبار عليها لرجل في مثل موقعه بين شقي الرحى، ووسط أنواء الصراعات الداخلية ومراكز القوى داخل النظام.. أقول بكل هذا، رغم تجربة شخصية مع بهاء الدين محمد ادريس في اكتوبر 1978، فقد هاتفته بعد قدومي من كمبالا ليحدد لي موعداً مع الرئيس نميري لتسليمه رسالة (خطيرة) من رئيس افريقي و«مطوحني» اسبوعاً ثم قابلته.. وسألني عن فحوى الرسالة التي هاله اني اعلم تفاصيلها... وقرر حجبي عن الرئيس حتى تدخل الرائد مأمون عوض أبو زيد.. وتلك قصة أخرى، لكن ما عرفته لاحقاً أن د. بهاء فات عليه البُعد الشخصي والانساني فاستكثر أن أحمل رسالة من رئيس لنميري فيما هناك سفيران، سفير السودان في كمبالا وسفير يوغندا في الخرطوم.. سبحان الله!!